ثورة الشعب الطيب

 
في مصر كما في تونس، يا لها من عبقرية سياسية للشعب، عندما يرسل إليه الجيش، يستشعر الكمين، فيحيط بالجيش ويغمره بدفئه الإنساني وبحشوده، وتغطس المدرعات كالجزر وسط هذا البحر الشعبي، وتصير مسالمة، غير مؤذية، قريبة من السكينة. وعلى بعضها تكتب أيدي الشعب الخفية ما يشبه الدعابة: "يسقط مبارك". الشعب يحتضن جنوده. أليسوا منه. عندما أرسل الحكم الجيش، خاطر بحدوث تآخيه مع الشعب.

لكن حذار: لم يتم حسم أي أمر حتى الآن: في تونس، لا يكون الوزير الأول الغنوشي واثقا من نفسه، لو لم يتلق ضمانات من القيادة العسكرية. إنه يناور بغية إنقاذ النظام، متظاهرا بالتواضع، مسايرا للأسلوب الديمقراطي الجديد. في البداية قام بتشكيل حكومة "اتحاد وطني" أغلبيتها الساحقة من التجمع الدستوري، ثم أقدم على تغييرها، فبدت الخطوة كأنها تنازل وهلل الناس للنصر، قمة الفن. 

                        

لم يتوقعوا شيئـا

يجري بث صور الموجة الديمقراطية العربية على قناة الجزيرة، دون توقف. لقد اتضح أخيرا أن النظم العربية لا مهمة لها سوى أداء دور السد لاحتجاز إرادة شعوبها، فباتت المعضلة بالنسبة لها كما بالنسبة للقوى الغربية هي التالية: إذا فتحوا السد، يخاطرون بأن تجرفهم المياه الهادرة وإذا أغلقوه، يخاطرون بانهياره تحت ضغط الموجة الشعبية. الشاه مات. الآن أصبح الأمر لا لبس فيه. إن العالم العربي في منعرج تاريخي. قد يأخذ وقتا أو لا يأخذ، لكنه مؤكد.

الغرب يخاف الديمقراطية في البلدان العربية. ما يبعث فينا أملا عظيما يثير لديه بالعكس الخوف. إن سطوته العسكرية جعلته لا يتوقع شيئا. أوباما، الذي طالما تمنينا أن... نحبه، ينتبه فجأة إلى أن الحكم المصري ليس ديمقراطيا ويتذكر حقوق الإنسان ويطالب بها على عجل، يوم الجمعة، وقلبه على إسرائيل قبل غيرها. وفي اليوم التالي، يجتمع بمجلسه الأمني وهيئة أركان جيشه إلا أنهم يفتقدون لبديل عن مبارك.

                   

جنرال آخر، محمد البرادعي، كان الأخير موظفا بالأمم المتحدة بين 1964 و1974 ومشاركا في اتفاقات كامب ديفد عام 1978، بصفته مستشارا خاصا لوزير الخارجية المصرية بحكومة السادات، ثم قضى ربع قرن بالخارج، في رفاه الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وهو عندما يتحدث ينطق بالإنجليزية، كما تعود، بما في ذلك في القاهرة.

إنها شخصية تبدو باهتة، رغم حصوله على جائرة نوبل التي لا تمل الوسائط الغربية عن التذكير بها، مع العلم أنها منحت في الواقع لتلك الوكالة.

هناك من يروج أيضا أنه أبدى معارضة شجاعة للرئيس بوش بشأن كذبة أسلحة الدمار الشامل في العراق. غير أن ما بقي بالذاكرة هو أنه كان أقل شجاعة وعزم من زميله الرائع السويدي هانس بليكس، كما أنه لا يبدو ثابت الخطى في مصر وواثق النفس وسط الشعب.

             

في ساحل العاج، جيء كذلك بموظف دولي، بمدير سابق في صندوق النقد العالمي الحسن وتارا، لإنقاذ ما أمكن. إنه الفصل الجديد في باب استخدام الموظفين الدوليين.

من جهتها، تحاول فرنسا محو الأثر الذي تركته صرخة إنقاذ بن علي، المنبعثة من أعماق قلب وزيرة شؤونها الخارجية. لقد سارعت في هذه المرة إلى التنديد بقمع المظاهرات في مصر، استعدادا للتخلي عن مبارك مثلما تخلت عن بن علي بين ليلة وضحاها. فطالما كان الاثنان في خدمتها، كما كان الحال بالنسبة لمشروع الاتحاد من أجل البحر الأبيض المتوسط، كانا وجهة ابتساماتها ومداهناتها. فرنسا لا تحسب للعواطف حسابا. ليكن هذا في علم الخدام الآخرين.

ثم إن وسواس فرنسا، اليمين واليسار الرسميين على حد سواء، مصدره الوضع في بلاد المغرب قبل كل شيء، لأنها لا شيء من دون هذه المنطقة. يتضح هذا فجأة على ضوء القلق الشديد الذي ينتابها. إنها نهاية مرحلة تاريخية، بلا جدال، مرحلة سيطرة أوروبا. قطعة صغيرة جدا كانت تسيطر على بقية العالم. كان هذا يدهشني باستمرار كلما طالعت الخريطة. اليوم الصين، الهند، كوريا الجنوبية، تركيا، إيران، البرازيل، الفيتنام، ماليزيا، آسيا... إلخ. تصعد وتنمو اقتصاديا بسرعة كبيرة. الأمور تعود إلى نصابها وإلى مقاساتها الصحيحة في هذا القرن الـ21. التاريخ يسرع خطاه.

                                             

الإنترنت، الجوال، فيسبوك، تويتر، تعرضت لحظر نظام مبارك. الدكتاتوريات العربية تخاف تقدم التكنولوجيا، تتوهم أن الإنترنت مصدر ذعرها فتحمله مسؤولية التمرد الشعبي. وعندما يدرك النظام المصري أن الشعب، من جهته، يشاهد التلفزيون، يقطع إرسال الجزيرة على نايل سات. الطبع غلاب.

في الغرب أيضا، ويكيليكس بعثت رعشة برد في الأوساط الحاكمة. الإرهاب يستعمل يوميا كذريعة لتبرير مشاريع الرقابة على الرأي العام، على الإنترنت والصحف الإلكترونية، فيجري تحويل الإعلام الرقمي إلى سلاح من أجل الديمقراطية من قبل الشباب. أهو قرن الشفافية الحقيقية؟ ربما.

إنها الشفافية أيضا، تلك التي تجسدت في نشر 1600 وثيقة عن المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية من قبل قناة تلفزيون الجزيرة وجريدة الغارديان البريطانية.

وثائق مزورة؟ وثائق صحيحة؟ المشكل الحقيقي، في الواقع، هو أن لهذه الوثائق وللخيانة التي تكشفها مصداقية لأن محمود عباس وأصدقاءه الفلسطينيين والمصريين بلا مصداقية، كونهم فقدوا ثقة الشعب الفلسطيني والشعوب العربية بالضبط كما فقدتها الأنظمة العربية التي أثرت فيهم للأسف. هل كانت هذه الوثائق ستحظى بالمصداقية لو خصت حماس؟

ثورة شعبية و ثورة ثقافية

يجب أيضا الحديث عن الجانب الثقافي لهذه الثورة الديمقراطية العربية. الأنظمة البوليسية اضطهادية لأن تسييرها قائم على الخوف، أو بالأحرى على وهم الخوف، لأنها هشة, إننا نندهش في كل مرة من مشاهدة انهيارها كقصور الورق. والحال إن الخوف يعزل الناس عن بعضهم البعض والثورة هي بالعكس عرس، بل أكبر الأعراس، إذ تقرب بين الناس. في الشارع، في المظاهرات، في الحركة الشعبية، الناس يتحادثون، يتواصلون، يكتشفون متعجبين أنهم يفكرون في نفس الشيء، يحفزون بعضهم، يبدون ذكاء جماعيا، يبدعون. في كل مكان عطش للكلمة، للتعبير، للقول. في تونس، يبدو كل تونسي خطيبا.

فالثورة ثقافية كذلك، والشعب يكافح أيضا بلغته وثقافته. كان نظام بن علي يهين الشعب التونسي ثقافيا أيضا حتى أصبحت اللغة الفرنسية جهارا لغة النخب المتغطرسة للنظام وتأشيرة اللحاق بالأوساط القائدة اقتصاديا وماليا. إن قناة تلفزيونية مثل نسمة، المملوكة لطارق بن عمر- أحد المقربين من النظام- تخصصت في تعويض العربية بهجين مكون من مزيج من الفرنسية والعربية بدعوى (كما عندنا في الجزائر) أنها لغة الشارع. إنها دعوى باطلة، لأن الحقيقة هي أن الشارع كان ممنوعا من الكلام واليوم يقوم الشارع التونسي بالثورة، بواسطة لغته.

                                                                                                                  

كنت أشاهد قناة نسمة المذكورة أثناء الأيام الأولى للثورة، وكنت أبتسم جراء البهلوانيات اللغوية للمنشط. كان يجد صعوبة متزايدة في الاحتفاظ بتلك الرطانة الفرنسية العربية وهو يدعو، في نفس الوقت، ممثلين شعبيين للثورة إلى المشاركة في حصته. كان الانشقاق الثقافي قد أصبح أيضا انشقاقا اجتماعيا وكان الشعب يقول بالفرنسية "ديكاج" لبن علي وإلى التجمع الدستوري لكنه يخاطب ذويه بالعربية.

في أكتوبر 2010، في مهرجان قرطاج بتونس، كان بالإمكان ملاحظة نفس الانشقاقات، نفس التوترات الاجتماعية الثقافية حول مسألة الاستقلال والكرامة الوطنية.

لقد ندد سينمائيون توانسة كثيرون بعملية تحريف المهرجان عن هدفه إذ كان في الأصل مهرجانا عربيا وأفريقيا للتحرر الوطني ضمن سياق عقد الستينيات وإذا به تحول إلى مهرجان فرنكوفوني، تحت النفوذ الفرنسي.

فالمشرفة عليه -وهي معينة من الحكومة التونسية- كانت هي نفسها المعينة من فرنسا لإدارة صندوق الجنوب، إحدى الهيئات التابعة لوزارة الشؤون الخارجية الفرنسية ولدعم سينما الجنوب.

بالنسبة لكثير من الناس كان هناك نزاع مصالح، وهذا يفسر ذاك. يوم 26 أكتوبر بفندق أفريكا، جمعت سفارة فرنسا أوساطا من السينما التونسية. وقام فريدريك ميتران، الوزير الفرنسي للثقافة، بالظهور في الاجتماع الذي كان يترأسه سرج مواتي، من القناة الفرنسية، فرانس 5. على المنصة جلس أيضا مخرج تونسي معروف بنزعته الفرنكوفيلية وتوجه للحضور قائلا: "البعض يستنجد لأن فرنسا عائدة، أنا أقول فرنسا تعود لحسن الحظ". 

                             

وضوح يصيب المرء بالذهول: لا حاجة للبحث عن الاستعمار الجديد. إنه هنا متبنى بلا لبس. فهناك من بين الرسميين التونسيين لقطاع الثقافة من كانوا "يدعون فرنسا والثقافة الفرنسية للعون ضد غزو الفضائيات العربية" لأن "النضال ضد الأصولية هو نضال مشترك".

بلغ التوسل الذليل مبلغا أحرج الفرنسيين أنفسهم وجعل أحدهم يلاحظ: "نحن لا نستطيع أن نفكر بدلا منكم"، بينما أسر مخرج تونسي لصديقه الجزائري "انظر، انظر جيدا، ها هو الطابور الخامس، ها هو مستوى الدناءة الذي نعانيه في بلدنا". «بعد شهرين من ذلك انفجرت الانتفاضة التونسية".

في تونس وفي مصر، كان هناك نفس الشعور بالاحتقار ونفس العزم على الدفاع عن الكرامة الوطنية. الأشكال وحدها تختلف بحسب السياق: في مصر ضد العار الذي جلبه الخضوع لإسرائيل، في تونس ضد استمرار وعودة الأشكال الثقافية، الاقتصادية والسياسية للاستعمار. 

الشاه مات كذلك في لعبة تحريض الشعوب العربية ضد بعضها البعض. منذ وقت ليس ببعيد، جرت محاولة إثارة الشبيبتين الجزائرية والمصرية الواحدة ضد الأخرى، في صراع بين إخوة من أجل مباراة لكرة القدم، من أجل هدف سجل في مرمى عوضا عن المرمى الآخر.

                           

اليوم جاء الرد لاذعا إلى كل الذين أخذوا رغباتهم على أنها الحقيقة واعتقدوا أنهم أسسوا لبغضاء مديدة بين الشعبين. كم يبدو تافها اليوم الاحتقار الموجه هنا للمصريين والموجه هناك للجزائريين، وكم تبدو تافهة اليوم محاولات إقناعنا بالتخلي عن التضامن والوحدة العربية.

فحتى الطريقة التي انتشرت بها الانتفاضة التونسية عبر العالم العربي ذات دلالة ثقافية، دلالة الوعي، ليس لدينا فقط، وإنما لدى بقية العالم كذلك: الوعي بمصير عربي مشترك، الذي تكشف الأحداث الراهنة بديهيته.

إن لفظ الانتفاضة ذاته الذي يوحد الشبيبة العربية، من فلسطين إلى تونس، وذروة الاحتجاج عند التضحية بالنفس من المغرب إلى اليمن، مرورا بموريتانيا، تونس، الجزائر، مصر، من خلال ذاك الفعل الرهيب، المتكرر، المقلد من أقصى العالم العربي إلى أقصاه، يرددان نفس الصرخة، نفس الرفض للإهانة، نفس الطموح إلى الكرامة الجماعية والفردية وإلى العدالة.

هذه الثورة تجري، بالمعنى الحقيقي للكلمة، من بلاد عربية إلى بلاد عربية أخرى وتجوب أرجاءها، فتتسبب في ارتجاجها كلها، بما فيها تلك التي تبدو صامتة، إلى حد أنها تظهر كأنها نفس الثورة، لأن الرسالة واحدة، المبعوثة والمفهومة بنفس اللغة، نفس الثقافة. العالم العربي استيقظ. الباقي مسألة وقت